الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: في ظلال القرآن ***
{وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (136) وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (137) وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (138) وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (139) قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (140) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآَتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (141) وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (142) ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آَلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (143) وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آَلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (144) قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (145) وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (146) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (147) سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آَبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ (148) قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (149) قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِنْ شَهِدُوا فَلَا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (150) قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151) وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (152) وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153)} هذا الشوط الطويل كله- بالإضافة إلى الشوط الذي سبقه والتعقيبات عليه- في سياق سورة مكية، من القرآن المكي الذي كان موضوعه هو العقيدة؛ والذي لم يتعرض لشيء من الشريعة- إلا ما يختص بتأصيل أصلها الاعتقادي- حيث لم تكن للإسلام دولة تنفذ شريعته؛ فصان الله هذه الشريعة أن تصبح حديث ألسن، وموضو عات دراسة؛ قبل أن يهيئ لها المجتمع الذي يدخل في السلم كافة، ويسلم نفسه لله جملة، ويعبد الله بالطاعة لشريعته؛ وقبل أن يهيئ لها الدولة ذات السلطان، التي تحكم بهذه الشريعة بين الناس فعلا؛ وتجعل معرفة الحكم مقرونة بتنفيذه، كما هي طبيعة هذا الدين، وكما هو منهجه، الذي يكفل له الجدية والحرارة والوقار.. نقول: هذا الشوط الطويل كله في سورة مكية؛ يتناول قضية التشريع والحاكمية. فيدل على طبيعة هذه القضية- إنها قضية عقيدية.. ويدل على جدية هذه القضية في هذا الدين.. إنها قضيته الرئيسية.. وقبل أن نمضي في مواجهة النصوص تفصيلا، نحب أن نعيش في ظلال السياق القرآني بجملته.. لنرى محتوياته على وجه الإجمال. ولنرى دلالته وإيحاءاته كذلك.. إنه يبدأ بعرض مجموعة التصورات والمزاعم الجاهلية حول ما كانوا يزاولونه في شأن الثمار والأنعام والأولاد- أي في شأن المال والاجتماع- في جاهليتهم. فنجد هذه التصورات والمزاعم تتمثل في: 1- تقسيمهم ما رزقهم الله من رزق، وأنشأ لهم من زروع وأنعام، إلى قسمين: قسم يجعلونه لله- زاعمين أن هذا مما شرعه الله- وقسم يجعلونه لشركائهم- وهي الآلهة المدعاة التي يشركونها في أنفسهم وأموالهم وأولادهم من دون الله: {وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا. فقال: هذا لله- بزعمهم- وهذا لشركائنا} ! 2- أنهم بعد ذلك، يجورون على النصيب الذي قسموه لله. فيأخذون جانبا منه ويضمونه إلى ما قسموه لشركائهم، ولا يفعلون مثل ذلك فيما قسموه للشركاء!: {فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله، وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم} ! 3- أنهم يقتلون أولادهم بتزيين من الشركاء- وهم في هذه الحالة إنما هم الكهان والمشترعون فيهم- ممن يصنعون التقاليد التي يخضع لها الأفراد في المجتمع، بحكم الضغط الاجتماعي من ناحية، وحكم التأثير بالأساطير الدينية من ناحية- وكان هذا القتل يتناول البنات مخافة الفقر والعار. كما قد يتناول الذكور في النذور، كالذي نذره عبد المطلب أن لو رزقه الله عشرة أبناء يحمونه ليذبحن أحدهم للآلهة! {وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم، ليردوهم وليلبسوا عليهم دينهم} ! 4- أنهم كانوا يحجزون بعض الأنعام وبعض الزروع؛ فيزعمون أنها لا تطعم إلا بإذن خاص من الله- هكذا يزعمون!- كما كانوا يمنعون ظهور بعض الأنعام من الركوب. ويمنعون أن يذكر اسم الله على بعضها عند الذبح أو الركوب أولا يركبونها في الحج لأن فيه ذكر الله. مع الزعم بأن هذا كله قد أمر الله به: {وقالوا: هذه أنعام وحرث حجر لا يطعمها إلا من نشاء- بزعمهم- وأنعام حرمت ظهورها، وأنعام لا يذكرون اسم الله عليها- افتراء عليه-!}. 5- وأنهم كانوا يسمون ما في بطون بعض الأنعام من الحمل لذكورهم، ويجعلونه محرما على إناثهم. إلا أن ينزل الحمل ميتا فعندئذ يشترك فيه الذكور والإناث! مع نسبة هذه الشريعة المضحكة إلى الله: {وقالوا: ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا، وإن يكن ميتة فهم فيه شركاء. سيجزيهم وصفهم إنه حكيم عليم}.. هذه هي مجموعة التصورات والمزاعم والتقاليد التي كانت تصبغ وجه المجتمع العربي في الجاهلية، والتي يتصدى هذا السياق القرآني الطويل- في سورة مكية- للقضاء عليها، وتطهير النفوس والقلوب منها، وإبطالها كذلك في الواقع الاجتماعي. ولقد سلك السياق القرآني هذا المنهج في خطواته البطيئة الطويلة الدقيقة: * لقد قرر ابتداء خسران الذين قتلوا أولادهم سفها بغير علم وحرموا ما رزقهم الله- افتراء على الله- وأعلن ضلالهم المطلق في هذه التصورات والمزاعم التي ينسبونها إلى الله بغير علم. * ثم لفت أنظارهم إلى أن الله هو الذي أنشأ لهم هذه الأموال التي يتصرفون فيها هذه التصرفات.. هو الذي أنشأ لهم جنات معروشات وغير معروشات. وهو الذي خلق لهم هذه الأنعام.. والذي يزرق هو وحده الذي يملك، وهو وحده الذي يشرع للناس فيما رزقهم من هذه الأموال.. وفي هذه اللفتة استخدم حشدا من المؤثرات الموحية من مشاهد الزروع والثمار والجنات المعروشات وغير المعروشات، ومن نعمة الله عليهم في الأنعام التي جعل بعضها حمولة لهم يركب ويحمل وبعضها فرشاً، يؤكل لحمه ويفرش جلده وصوفه وشعره.. كما استخدم ذكرى العداء المتأصل بين بني آدم والشيطان. فكيف يتبعون خطوات الشيطان، وكيف يستمعون لوسوسته وهو العدو المبين؟! * بعد ذلك استعرض في تفصيل شديد سخافة تصوراتهم فيما يختص بالأنعام، وخلوها من كل منطق، وألقى الأضواء على ظلمات التصورات حتى لتبدو تافهة مهلهلة متهافتة.. وفي نهاية هذا الاستعراض يسأل: علام ترتكنون في هذه التشريعات الخالية من كل حجة ومنطق: {أم كنتم شهداء إذ وصاكم الله بهذا؟} فكان ذلك سرا تعلمونه أنتم ووصية خاصة بكم! ويشنع بجريمة الافتراء على الله، وإضلال الناس بغير علم. ويجعل هذا التشنيع أحد المؤثرات المتنوعة التي يستخدمها.. * وهنا يقرر السلطة صاحبة الحق في التشريع. ويبين ما حرمته هذه السلطة فعلا من المطاعم. سواء ما حرم على المسلمين وما حرم على اليهود خاصة وأحله الله للمسلمين. * ثم يناقش إحالتهم هذه الجاهلية- الممثلة في الشرك بالله وتحريم ما أحل الله وكلاهما في مستوى الآخر من ناحية دلالته ووصفه الشرعي عند الله- على إرادة الله وقولهم: {لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء}.. فيقرر أن هذه المقالة هي مقالة كل كافر مكذب من قبل، وقد قالها المكذبون حتى جاءهم بأس الله: {كذلك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا} فالشرك كالتحريم بدون شرع الله، كلاهما سمة المكذبين بآيات الله. ويسألهم في استنكار علام تحيلون هذه المقررات التي تقررونها: {قل: هل عندكم من علم فتخرجوه لنا. إن تتبعون إلا الظن، وإن أنتم إلا تخرصون} ! * ثم ينهي مناقشتهم في هذا الشأن بدعوتهم إلى موقف الإشهاد والمفاصلة- تماماً كما دعاهم إلى هذا الموقف في أول السورة في شأن أصل الاعتقاد- مع استخدام نفس العبارات والأوصاف، بل نفس الألفاظ، للدلالة على أن القضية واحدة: قضية الشرك بالله، وقضية التشريع بغير إذن من الله: {قل: هلم شهداءكم الذين يشهدون أن الله حرم هذا، فإن شهدوا فلا تشهد معهم. ولا تتبع أهواء الذين كذبوا بآياتنا والذين لا يؤمنون بالآخرة، وهم بربهم يعدلون}.. ونرى من الآية إلى جانب وحدة المشهد والعبارة واللفظ، أن الذين يزاولون هذه التشريعات هم الذين يتبعون أهواءهم. وهم الذين كذبوا بآيات الله. وهم الذين لا يؤمنون بالآخرة. فلو أنهم صدقوا بآيات الله وآمنوا بالآخرة واتبعوا هدى الله ما شرعوا لأنفسهم وللناس من دون الله. وما حرموا وحللوا بغير إذن من الله. * وفي نهاية الشوط يدعوهم ليبين لهم ما حرمه الله حقاً.. وهنا نرى جملة من المبادئ الأساسية للحياة الاجتماعية، في مقدمتها توحيد الله. وبعضها أوامر وتكاليف ولكن التحريمات أغلب، فجعلها عنواناً للكل: لقد نهى الله عن الشرك. وأمر بالإحسان للوالدين. ونهى عن قتل الأولاد من الفقر مع طمأنتهم على الرزق. ونهى عن القرب من الفواحش ما ظهر منها وما بطن. ونهى عن قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق. ونهى عن مس مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده. وأمر بإيفاء الكيل والميزان بالقسط. وأمر بالعدل في القول- في الشهادة والحكم- ولو كان ذا قربى. وأمر بالوفاء بعهد الله كله. وجعل هذا جميعه وصية من الله كررها عقب كل جملة من الأوامر والنواهي. هذا الحشد كله الذي يتضمن قاعدة العقيدة ومبادئ الشريعة؛ اللتين تتجمعان هذا التجمع في السياق، وتمتزجان هذا الامتزاج؛ وتعرضان جملة واحدة، وكتلة واحدة، بصورة لا تخفى دلالتها على من يطالع هذا القرآن على النهج الذي بيناه.. هذا الحشد كله يقال عنه في نهاية الشوط الطويل: {وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه، ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله. ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون}.. وذلك لإبراز تلك الدلالة المستفادة من السياق كله؛ وصوغها في تقرير واحد واضح حاسم: إن هذا الدين شريعته كعقيدته في تقرير صفة الشرك أو صفة الإسلام. بل إن شريعته من عقيدته في هذه الدلالة.. بل إن شريعته هي عقيدته.. إذ هي الترجمة الواقعية لها.. كما تتجلى هذه الحقيقة الأساسية من خلال النصوص القرآنية، وعرضها في المنهج القرآني.. وهذه هي الحقيقة التي زُحزح مفهوم «الدين» في نفوس أهل هذا الدين عنها زحزحة مطردة خلال قرون طويلة، بشتى الأساليب الجهنمية الخبيثة.. حتى انتهى الأمر بأكثر المتحمسين لهذا الدين- ودعك من أعدائه والمستهترين الذين لا يحفلونه- أن تصبح قضية الحاكمية في نفوسهم قضية منفصلة عن قضية العقيدة! لا تجيش لها نفوسهم كما تجيش للعقيدة! ولا يعدون المروق منها مروقاً من الدين، كالذي يمرق من عقيدة أو عبادة! وهذا الدين لا يعرف الفصل بين العقيدة والعبادة والشريعة. إنما هي الزحزحة التي زاولتها أجهزة مدربة، قروناً طويلة، حتى انتهت مسألة الحاكمية إلى هذه الصورة الباهتة؛ حتى في حس أشد المتحمسين لهذا الدين! وهي هي القضية التي تحتشد لها سورة مكية- موضوعها ليس هو النظام وليس هو الشريعة، إنما موضوعها هو العقيدة- وتحشد لها كل هذه المؤثرات، وكل هذه التقريرات؛ بينما هي تتصدى لجزئية تطبيقية من تقاليد الحياة الاجتماعية. ذلك أنها تتعلق بالأصل الكبير.. أصل الحاكمية.. وذلك أن هذا الأصل الكبير يتعلق بقاعدة هذا الدين وبوجوده الحقيقي.. إن الذين يحكمون على عابد الوثن بالشرك، ولا يحكمون على المتحاكم إلى الطاغوت بالشرك. ويتحرجون من هذه ولا يتحرجون من تلك.. إن هؤلاء لا يقرأون القرآن، ولا يعرفون طبيعة هذا الدين.. فليقرأوا القرآن كما أنزله الله؛ وليأخذوا قول الله بجد: {وإن أطعتموهم إنكم لمشركون} وإن بعض هؤلاء المتحمسين لهذا الدين ليشغلون بالهم وبال الناس ببيان إن كان هذا القانون، أو هذا الإجراء، أو هذا القول، منطبقاً على شريعة الله أو غير منطبق.. وتأخذهم الغيرة على بعض المخالفات هنا وهناك.. كأن الإسلام كله قائم، فلا ينقص وجوده وقيامه وكماله إلا أن تمتنع هذه المخالفات! هؤلاء المتحمسون الغيورون على هذا الدين، يؤذون هذا الدين من حيث لا يشعرون. بل يطعنونه الطعنة النجلاء بمثل هذه الاهتمامات الجانبية الهزيلة.. إنهم يفرغون الطاقة العقيدية الباقية في نفوس الناس في هذه الاهتمامات الجانبية الهزيلة.. إنهم يؤدون شهادة ضمنية لهذه الأوضاع الجاهلية. شهادة بأن هذا الدين قائم فيها، لا ينقصه ليكمل إلا أن تصحح هذه المخالفات. بينما الدين كله متوقف عن «الوجود» أصلا، ما دام لا يتمثل في نظام وأوضاع، الحاكمية فيها لله وحده من دون العباد. إن وجود هذا الدين هو وجود حاكمية الله. فإذا انتفى هذا الأصل انتفى وجود هذا الدين.. وإن مشكلة هذا الدين في الأرض اليوم، لهي قيام الطواغيت التي تعتدي على ألوهية الله، وتغتصب سلطانه، وتجعل لأنفسها حق التشريع بالإباحة والمنع في الأنفس والأموال والأولاد.. وهي هي المشكلة التي كان يواجهها القرآن الكريم بهذا الحشد من المؤثرات والمقررات والبيانات، ويربطها بقضية الألوهية والعبودية، ويجعلها مناط الإيمان أو الكفر، وميزان الجاهلية أو الإسلام. إن المعركة الحقيقية التي خاضها الإسلام ليقرر «وجوده» لم تكن هي المعركة مع الإلحاد، حتى يكون مجرد «التدين» هو ما يسعى إليه المتحمسون لهذا الدين! ولم تكن هي المعركة مع الفساد الاجتماعي أو الفساد الأخلاقي- فهذه معارك تالية لمعركة «وجود» هذا الدين!.. لقد كانت المعركة الأولى التي خاضها الإٍسلام ليقرر «وجوده» هي معركة «الحاكمية» وتقرير لمن تكون.. لذلك خاضها وهو في مكة. خاضها وهو ينشئ العقيدة، ولا يتعرض للنظام والشريعة. خاضها ليثبت في الضمير أن الحاكمية لله وحده؛ لا يدعيها لنفسه مسلم؛ ولا يقر مدعيها على دعواه مسلم.. فلما أن رسخت هذه العقيدة في نفوس العصبة المسلمة في مكة، يسر الله لهم مزاولتها الواقعية في المدينة... فلينظر المتحمسون لهذا الدين ما هم فيه وما يجب أن يكون. بعد أن يدركوا المفهوم الحقيقي لهذا الدين! وحسبنا هذا القدر لنواجه النصوص بالتفصيل. {وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيباً. فقالوا: هذا لله- بزعمهم- وهذا لشركائنا. فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله، وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم. ساء ما يحكمون!}.. يقرر السياق- وهو يصف تصورات الجاهلية وتقاليدها في الحرث والأنعام- أن الله هو الذي أنشأ لهم هذه الزروع والأنعام؛ فما من أحد غير الله يرزق الناس من الأرض والسماء.. ثم يذكر بعد هذا التقرير ما يفعلونه بما رزقهم. إذا يجعلون له منه سبحانه جزءا، ويجعلون لأوثانهم وأصنامهم جزءا (وطبيعى أن سدنة الأوثان هم الذين ينتهي إليهم هذا الجزء الأخير!). ثم هم بعد ذلك يجورون على الجزء الذي جعلوه لله. على النحو الذي تقرره الآية! عن ابن عباس قال: كانوا إذا أدخلوا الطعام فجعلوه حزما، جعلوا منه لله سهما وسهما لآلهتم. وكانت إذا هبت الريح من نحو الذي جعلوه لآلهتهم إلى الذي جعلوه لله، ردوه إلى الذي جعلوه لآلهتهم. وإذا هبت الريح من نحو الذي جعلوه لله إلى الذي جعلوه لآلهتهم، أقروه ولم يردوه. فذلك قوله: {ساء ما يحكمون}. وعن مجاهد قال: يسمون لله جزءا من الحرث، ولشركائهم وأوثانهم جزءا. فما ذهبت به الريح مما سموا لله إلى جزء أوثانهم تركوه. وما ذهب من جزء أوثانهم إلى جزء الله ردوه. وقالوا: «الله عن هذا غني»! والأنعام: السائبة والبحيرة التي سموا. وعن قتادة قال: عمد ناس من أهل الضلالة فجزأوا من حروثهم ومواشيهم جزءاً لله وجزءاً لشركائهم وكانوا إذا خالط شيء مما جزأوا لله فيما جزأوا لشركائهم خلوه. فإذا خالط شيء مما جزأوا لشركائهم فيما جزأوا لله ردوه على شركائهم. وكانوا إذا أصابتهم السنة (يعني الجدب) استعانوا بما جزأوا لله، وأقروا ما جزأوا لشركائهم. قال الله، {ساء ما يحكمون}. وعن السدي قال: كانوا يقسمون من أموالهم قسما فيجعلونه لله، ويزرعون زرعا فيجعلونه لله. ويجعلون لآلهتهم مثل ذلك.. فما خرج للآلهة أنفقوه عليها، وما خرج لله تصدقوا به. فإذا هلك الذي يصنعون لشركائهم، وكثر الذي لله، قالوا: «ليس بد لآلهتنا من نفقة»! وأخذوا الذي لله فأنفقوه على آلهتهم. وإذا أجدب الذي لله، وكثر الذي لآلهتهم، قالوا: «لو شاء أزكى الذي له»! فلا يردون عليه شيئا مما للآلهة. قال الله.. لو كانوا صادقين فيما قسموا لبئس إذن ما حكموا: أن يأخذوا مني ولا يعطوني! فذلك حين يقول: {ساء ما يحكمون}. وعن ابن جرير: وأما قوله: {ساء ما يحكمون} فإنه خبر من الله جل ثناؤه عن فعل هؤلاء المشركين الذين وصف صفتهم. يقول جل ثناؤه: قد أساءوا في حكمهم، إذ أخذوا من نصيبي لشركائهم، ولم يعطوني من نصيب شركائهم. وإنما عنى بذلك- تعالى ذكره- الخبر عن جهلهم وضلالتهم، وذهابهم عن سبيل الحق. بأنهم لم يرضوا أن عدلوا بمن خلقهم وغذاهم، وأنعم عليهم بالنعم التي لا تحصى، ما لا يضرهم ولا ينفعهم، حتى فضلوه في أقسامهم عن أنفسهم بالقسم عليه! هذا هو ما كان شياطين الإنس والجن يوحون به إلى أوليائهم ليجادلوا به المؤمنين في الأنعام والزروع. وظاهر في هذه التصورات والتصرفات أثر المصلحة للشياطين في هذا الذي يزينونه لأوليائهم. فأما مصلحة شياطين الإنس- من الكهنة والسدنة والرؤساء- فهي متمثلة أولا في الاستيلاء على قلوب الأتباع والأولياء، وتحريكهم على هواهم وفق ما يزينونه لهم من تصورات باطلة وعقائد فاسدة! ومتمثلة ثانيا في المصالح المادية التي تتحقق لهم من وراء هذا التزيين والاستهواء لجماهير الناس؛ وهو ما يعود عليهم مما يقسمه هؤلاء الأغرار المغفلون للآلهة!.. وأما مصلحة شياطين الجن فتتمثل في نجاح الإغواء والوسوسة لبني آدم حتى يفسدوا عليهم حياتهم، ويفسدوا عليهم دينهم، ويقودوهم ذللاً إلى الدمار في الدنيا والنار في الآخرة! وهذه الصورة التي كانت تقع في جاهلية العرب، وكانت تقع نظائرها في الجاهليات الأخرى: للإغريق والفرس والرومان، والتي ما تزال تقع في الهند وإفريقية وآسيا... هذه الصور كلها ليست إلا صورا من التصرف في المال لا تقتصر عليها الجاهلية! فالجاهلية الحاضرة تتصرف كذلك في الأموال بما لم يأذن به الله. وعندئذ تلتقي في الشرك مع تلك الجاهليات القديمة. تلتقي في الأصل والقاعدة. فالجاهلية هي كل وضع يتصرف في شؤون الناس بغير شريعة من الله، ولا عبرة بعد ذلك باختلاف الأشكال التي يتمثل فيها هذا التصرف.. فإن هي إلا أشكال.. {وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم ليردوهم، وليلبسوا عليهم دينهم. ولو شاء الله ما فعلوه. فذرهم وما يفترون}. يقول: وكما زين الشركاء والشياطين لهم ذلك التصرف في أموالهم كذلك زينوا لهم قتل أولادهم.. وذلك ما كانوا يفعلونه من وأد البنات خشية الإملاق- أو خشية السبي والعار- ومن قتل بعض الأبناء في النذر للآلهة كالذي روي عن عبد المطلب من نذره ذبح أحد ولده، إن رزقه الله بعشرة منهم يحمونه ويمنعونه! وظاهر أن هذا وذاك كان يوحي به عرف الجاهلية. العرف الذي وضعه الناس للناس. والشركاء المذكورون هنا هم شياطين الإنس والجن.. من الكهنة والسدنة والرؤساء من الإنس، ومن القرناء الموسوسين من الجن، بالتعاون والموالاة فيما بينهم! والنص يصرح بالهدف الكامن وراء التزيين: {ليردوهم، وليلبسوا عليهم دينهم}. ليهلكوهم وليجعلوا دينهم عليهم ملتبسا غامضا لا يقفون منه على تصور واضح.. فأما الهلاك فيتمثل ابتداء في قتلهم لأولادهم؛ ويتمثل أخيراً في فساد الحياة الاجتماعية بجملتها، وصيرورة الناس ماشية ضالة يوجهها رعاتها المفسدون حيثما شاءوا، وفق أهوائهم ومصالحهم! حتى ليتحكمون في أنفسهم وأولادهم وأموالهم بالقتل والهلاك، فلا تجد هذه الغنم الضالة لها مفرا من الخضوع. لأن التصورات المتلبسة بالدين والعقيدة- وما هي منها- بكل ثقلها وعمقها، تتعاون مع العرف الاجتماعي المنبثق منها، وتنشئ ثقلا ساحقا لا تقف له جماهير الناس. وما لم تعتصم منه بدين واضح؛ ما لم ترجع في أمرها كله إلى ميزان ثابت. وهذه التصورات المبهمة الغامضة؛ وهذا العرف الاجتماعي الذي ينبثق منها، ويضغط على جمهرة الناس بثقله الساحق.. لا ينحصر في تلك الصور التي عرفتها الجاهليات القديمة. فنحن نشهده اليوم بصورة أوضح في الجاهليات الحديثة.. هذه العادات والتقاليد التي تكلف الناس العنت الشديد في حياتهم، ثم لا يجدون لأنفسهم منها مفرا.. هذه الأزياء والمراسم التي تفرض نفسها على الناس فرضا، وتكلفهم أحيانا ما لا يطيقون من النفقة، وتأكل حياتهم واهتماماتهم، ثم تفسد أخلاقهم وحياتهم. ومع ذلك لا يملكون إلا الخضوع لها.. أزياء الصباح، وأزياء بعد الظهر، وأزياء المساء.. الأزياء القصيرة، والأزياء الضيقة، والأزياء المضحكة! وأنواع الزينة والتجميل والتصفيف... إلى آخر هذا الاسترقاق المذلّ.. من الذي يصنعه ومن الذي يقف وراءه؟ تقف وراءه بيوت الأزياء. وتقف وراءه شركات الإنتاج! ويقف وراءه المرابون في بيوت المال والبنوك من الذين يعطون أموالهم للصناعات ليأخذوا هم حصيلة كدها! ويقف وراءه اليهود الذين يعملون لتدمير البشرية كلها ليحكموها!. . ولكنهم لا يقفون بالسلاح الظاهر والجند المكشوف، إنما يقفون بالتصورات والقيم التي ينشئونها، ويؤصلونها بنظريات وثقافات؛ ويطلقونها تضغط على الناس في صورة (عرف اجتماعي). فهم يعلمون أن النظريات وحدها لا تكفي ما لم تتمثل في أنظمة حكم، وأوضاع مجتمع، وفي عرف اجتماعي غامض لا يناقشه الناس، لأنه ملتبس عليهم متشابكة جذوره وفروعه! إنه فعل الشياطين.. شياطين الإنس والجن.. وإنها الجاهلية تختلف أشكالها وصورها، وتتحد جذورها ومنابعها، وتتماثل قوائمها وقواعدها.. وإننا لنبخس القرآن قدره، إذا نحن قرأناه وفهمناه على أنه حديث عن جاهليات كانت! إنما هو حديث عن شتى الجاهليات في كل أعصار الحياة. ومواجهة للواقع المنحرف دائماً ورده إلى صراط الله المستقيم.. ومع ضخامة الكيد، وثقل الواقع، فإن السياق القرآني يهوّن أمر الجاهلية، ويكشف عن الحقيقة الكبرى التي قد يخدع عنها هذا الجانب الظاهر.. إن هؤلاء الشياطين وأولياءهم لفي قبضة الله وسلطانه. وهم لا يفعلون ما يفعلونه بقدرة ذاتية فيهم. ولكن بترك الحبل ممدوداً لهم قليلا؛ بمشيئة الله وقدره، تحقيقاً لحكمة الله في ابتلاء عباده. ولو شاء ألا يفعلوه ما فعلوه. ولكنه شاء للابتلاء فلا على النبي- صلى الله عليه وسلم- ولا على المؤمنين. فليمضوا في طريقهم وليدعوا له الشياطين وما يفترون على الله وما يكيدون: {ولو شاء الله ما فعلوه. فذرهم وما يفترون}.. ولا بد أن نذكر أنهم ما كانوا يجرؤون على أن يقولوا: إن هذه التصورات والتصرفات من عند أنفسهم. إنما يفترون على الله، فيزعمون أنه هو شرعها لهم.. ينسبونها بذلك إلى شريعة إبراهيم وإسماعيل- بزعمهم! كذلك يفعل الشياطين اليوم في الجاهلية الحديثة.. إن معظمهم لا يستطيع أن يتبجح تبجح الشيوعيين الملحدين؛ فينفي وجود الله جملة ويتنكر للدين علانية. إنما يلجأ إلى نفس الأسلوب الذي كان يلجأ إليه الشياطين في جاهلية العرب! يقولون: إنهم يحترمون الدين! ويزعمون أن ما يشرعونه للناس له أصل من هذا الدين!.. إنه أسلوب ألأم وأخبث من أسلوب الشيوعيين الملحدين! إنه يخدر العاطفة الدينية الغامضة التي لا تزال تعيش في قرارات النفوس- وإن لم تكن هي الإسلام. فالإسلام منهج واضح عملي واقع وليس هذه العاطفة المبهمة الغامضة- ويفرغ الطاقة الفطرية الدينية في قوالب جاهلية لا إسلامية. وهذا أخبث الكيد وألأم الأساليب! ثم يجيء «المتحمسون» لهذا الدين؛ فيفرغون جهدهم في استنكار جزئيات هزيلة على هامش الحقيقة الإسلامية، لا تروق لهم في هذه الأوضاع الجاهلية المشركة، المغتصبة لألوهية الله وسلطانه بالجملة. وبهذه الغيرة الغبية يسبغون على هذه الأوضاع الجاهلية المشركة طابع الإسلام. ويشهدون لها شهادة ضمنية خطيرة بأنها تقوم على أصل من الدين حقا، ولكنها تخالف عنه في هذه الجزئيات الهزيلة! ويؤدي هؤلاء المتحمسون دورهم لتثبيت هذه الأوضاع وتطهيرها. وهو نفس الدور الذي تؤديه الأجهزة الدينية المحترفة، التي تلبس مسوح الدين! وإن كان الإسلام بالذات لا يعرف المسوح ولا ينطق باسمه كاهن ولا سادن! {وقالوا: هذه أنعام وحرث حجر، لا يطعمها إلا من نشاء- بزعمهم- وأنعام حرمت ظهورها وأنعام لا يذكرون اسم الله عليها- افتراء عليه- سيجزيهم بما كانوا يفترون}.. قال ابو جعفر بن جرير الطبري: «وهذا خبر من الله- تعالى ذكره- عن هؤلاء الجهلة من المشركين. إنهم كانوا يحرمون ويحللون من قبل أنفسهم، من غير أن يكون الله أذن لهم بشيء من ذلك». والحجر: الحرام.. فهؤلاء المعتدون على سلطان الله، الذين يدعون- مع ذلك- أن ما يشرعونه هو شريعة الله، قد عمدوا إلى بعض الزروع وبعض الأنعام، فعزلوها لآلهتم- كما تقدم- وقالوا: هذه الأنعام وهذه الثمار محرمة عليهم لا يطعمونها. لا يطعمها إلا من شاء الله!- بزعمهم!- والذي يقرر ما يقرر في هذا الشأن هم بطبيعة الحال الكهنة والسدنة والرؤساء! وعمدوا إلى أنعام قيل: إنها هي الأنواع المسماة في آية المائدة: {ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام} فجعلوا ظهورها حراما على الركوب. كما عمدوا إلى أنعام فقالوا: هذه لا يذكر اسم عليها عند ركوبها ولا عند حلبها، ولا عند ذبحها.. إنما تذكر أسماء الآلهة وتخلص لها! كل ذلك {افتراء على الله} ! قال أبو جعفر بن جرير: «وأما قوله {افتراء على الله} فإنه يقول: فعل هؤلاء المشركون ما فعلوا من تحريمهم ما حرموا، وقالوا ما قالوا من ذلك، كذبا على الله، وتخرصاً بالباطل عليه، لأنهم أضافوا ما كانوا يحرمون من ذلك، على ما وصفه عنهم جل ثناؤه في كتابه، إلى أن الله هو الذي حرمه، فنفى الله ذلك عن نفسه، وأكذبهم. وأخبر نبيه والمؤمنين أنهم كذبة فيما يدعون». وهنا كذلك تبدو لنا أساليب الجاهلية، التي تتكرر في معظم الجاهليات، وذلك قبل أن يبلغ التبجح بناس من البشر أن يقولوا بمادية الوجود! وقبل أن يبلغ التبجح ببعض من لا ينكرون الله ألبتة، أن يجهروا بأن «الدين» مجرد «عقيدة» وليس نظاما اجتماعيا أو اقتصاديا أو سياسيا، يهيمن على الحياة! وإن كان ينبغي أن ندرك دائماً أن أسلوب الجاهلية التي تقيم نظاماً أرضياً، الحاكمية فيه للبشر لا لله، ثم تزعم أنها تحترم الدين وتستمد منه أوضاعها الجاهلية.. أن ندرك أن هذا الأسلوب هو أخبث الأساليب وأمهرها على الإطلاق! ولقد عمدت الصليبية العالمية والصهيونية العالمية إلى هذا الأسلوب في المنطقة التي كانت يوما دار إسلام تحكم بشريعة الله. بعدما تبين لها فشل التجربة التركية التي قام بها البطل الذي صنعوه هناك!.. لقد أدت لهم هذه التجربة دورا هاما في تحطيم الخلافة كآخر مظهر للتجمع الإسلامي في الأرض، ولكنها بعلمانيتها السافرة قد عجزت عن أن تكون نموذجا يؤثر في بقية المنطقة. لقد انخلعت من الدين، فأصبحت أجنبية عن الجميع، الذين ما يزال الدين عاطفة غامضة في قرارات نفوسهم.. ومن ثم عمدت الصليبية العالمية والصهيونية في التجارب التالية، التي تستهدف نفس الهدف، أن تتدارك غلطة التجربة الكمالية التركية. فتضع على هذه التجارب ستاراً من الدين وتقيم له أجهزة دينية تضفي عليه هذه الصفة، سواء بالدعاية المباشرة؛ أو باستنكار جزئيات هزيلة يوهم استنكارها أن ما عداها سليم! وكان هذا من أخبث الكيد الذي تكيده شياطين الإنس والجن لهذا الدين.. على أن الأجهزة الصليبية والصهيونية التي تعمل بكل ثقلها في هذه الفترة، وبكل تضامنها وتجمعها، وبكل تجاربها وخبرتها، تحاول أو تسترد الغلطة في التجربة التركية ذاتها، بأن تزعم أن هذه التجربة ذاتها كانت حركة من حركات البعث الإسلامي! وأننا يجب ألا نصدقها فيما أعلنته عن نفسها من أنها (علمانية) تنبذ الدين وتعزله عن الحياة عزلاً! ويجهد المستشرقون (وهم الأداة الفكرية للاستعمار الصليبي الصهيوني) في تطهير التجربة الكمالية من تهمة الإلحاد جهداً كبيراً.. ذلك أن انكشاف إلحادها جعلها تؤدي دورا محدودا.. وهو سحق آخر مظهر للتجمع الإسلامي في الأرض.. ولكنها عجزت بعد ذلك أن تؤدي الدور الآخر- الذي تحاول أن تؤديه التجارب التالية في المنطقة- من تفريغ المفهومات الدينية والحماسة الدينية في أوضاع وأشكال جاهلية! ومن تبديل الدين باسم الدين! ومن إفساد الخلق والمقومات الفطرية الأصلية باسم الدين أيضا. ومن إلباس الجاهلية ثوب الإسلام لتؤدي به دورها في كل البقاع التي ما يزال فيها عاطفة دينية غامضة؛ وقيادتها بهذا الخطام المزور الخادع إلى محاضن الصليبية والصهيونية.. الأمر الذي عجزت عنه الحملات الصليبية والصهيونية طوال ألف وثلاث مائة عام من الكيد للإسلام! .. {سيجزيهم بما كانوا يفترون}.. {وقالوا: ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا، وإن يكن ميتة فهم فيه شركاء. سيجزيهم وصفهم، إنه حكيم عليم}.. لقد استطردوا في أوهام التصورات والتصرفات، النابعة من انحرافات الشرك والوثنية، ومن ترك أمر التحليل والتحريم للرجال؛ مع الادعاء بأن ما يشرعه الرجال هو الذي شرعه الله. استطردوا في هذه الأوهام فقالوا عن الأجنة التي في بطون بعض الأنعام- ولعلها تلك المسماة البحيرة والسائبة والوصيلة- إنها خالصة للذكور منهم حين تنتج، محرمة على الإناث، إلا أن تكون ميتة فيشارك فيها الإناث الذكور.. هكذا بلا سبب ولا دليل ولا تعليل، إلا أهواء الرجال التي يصوغون منها دينا غامضاً ملتبسا في الأفهام. ويعقب السياق القرآني تعقيب التهديد؛ لمن صاغوا هذه الشرائع وكذبوا على الله فوصفوها بأنها من شرع الله: {سيجزيهم وصفهم}.. {إنه حكيم عليم}.. يعلم حقائق الأحوال، ويتصرف فيها بحكمة، لا كما يتصرف هؤلاء المشركون الجهال. وإن الإنسان ليعجب، وهو يستعرض مع السياق القرآني هذه الضلالات، وما تحمله أصحابها من أعباء وخسائر وتضحيات.. يعجب لتكاليف الانحراف عن شرع الله ونهجه، تلك التي يتحملها المنحرفون عن صراط الله المستقيم. ولأثقال الخرافة والغموض والوهم التي يتبعها الضالون. ولأغلال العقيدة الفاسدة في المجتمع والضمير.. نعم يعجب للعقيدة المنحرفة تكلف الناس حتى فلذات أكبادهم، فوق ما تكلفهم من تعقيد الحياة واضطرابها، والسير فيها بلا ضابط، سوى الوهم والهوى والتقليد. وأمامهم التوحيد البسيط الواضح؛ يطلق الضمير البشري من أوهام الوهم والخرافة؛ ويطلق العقل البشري من عقال التقليد الأعمى؛ ويطلق المجتمع البشري من الجاهلية وتكاليفها؛ ويطلق «الإنسان» من العبودية للعبيد- سواء فيما يشترعونه من قوانين، وما يصنعونه من قيم وموازين- ويحل محل هذا كله عقيدة واضحة مفهومة مضبوطة، وتصورا واضحا ميسرا مريحا، ورؤية لحقائق الوجود والحياة كاملة عميقة، وانطلاقا من العبودية للعبيد، وارتفاعا إلى مقام العبودية لله وحده.. المقام الذي لا يرتقي إلى أعلى درجاته إلا الأنبياء! ألا إنها الخسارة الفادحة- هنا في الدنيا قبل الآخرة- حين تنحرف البشرية عن صراط الله المستقيم؛ وتتردى في حمأة الجاهلية؛ وترجع إلى العبودية الذليلة لأرباب من العبيد: {قد خسر الذين قتلوا أولادهم- سفها بغير علم- وحرموا ما رزقهم الله- افتراء على الله- قد ضلوا وما كانوا مهتدين}.. خسروا الخسارة المطلقة. خسروا في الدنيا والآخرة. خسروا أنفسهم وخسروا أولادهم. خسروا عقولهم وخسروا أرواحهم. خسروا الكرامة التي جعلها الله لهم بإطلاقهم من العبودية لغيره؛ وأسلموا أنفسهم لربوبية العبيد؛ حين أسلموها لحاكمية العبيد! وقبل ذلك كله خسروا الهدى بخسارة العقيدة، خسروا الخسارة المؤكدة، وضلوا الضلال الذي لا هداية فيه: {قد ضلوا وما كانوا مهتدين}. بعد ذلك يردهم السياق إلى الحقيقة الأولية التي ضلوا عنها، والتي أشار إليها إشارة في أول هذا الحديث بقوله: {وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا}.. يردهم إلى مصدر الحرث والأنعام التي يتصرفون في شأنها هذه التصرفات؛ ويتلقون في شأنها من شياطين الإنس والجن الذين لم يخلقوها لهم ولم ينشئوها.. إن الله هو الذي ذرأ الحرث والأنعام، متاعا للناس ونعمة؛ ذرأها لهم ليشكروا له؛ ويعبدوه وما به سبحانه من حاجة إلى شكرهم وعبادتهم، فهو الغني ذو الرحمة، إنما هو صلاح حالهم في دينهم ودنياهم- فما بالهم يحكمون من لم يخلق شيئاً، فيما ذرأ الله من الحرث والأنعام؟ وما بالهم يجعلون لله نصيبا، ولأولئك نصيبا، ثم لا يقفون عند هذا الحد فيتلاعبون- تحت استهواء أصحاب المصلحة من الشياطين- في النصيب الذي جعلوه لله؟! إن الخالق الرازق هو الرب المالك. الذي لا يجوز أن يُتصرف في هذا المال إلا بإذنه ممثلا في شرعه. وشرعه ممثل فيما جاء به رسوله من عنده، لا فيما يدعي الأرباب المغتصبون لسلطان الله أنه شريعة الله! {وهو الذي أنشأ جنات معروشات وغير معروشات، والنخل والزرع مختلفا أكله، والزيتون والرمان، متشابها وغير متشابه. كلوا من ثمره إذا أثمر، وآتوا حقه يوم حصاده، ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين. ومن الأنعام حمولة وفرشا. كلوا مما رزقكم الله، ولا تتبعوا خطوات الشيطان، إنه لكم عدو مبين}. إن الله- سبحانه هو الذى خلق هذه الجنات ابتداء- فهو الذى أخرج الحياة من الموات- وهذه الجنات منها الإنسيات المعروشات التى يتعهدها الإنسان بالعرائش والحوائط؛ ومنها البريات التى تنبت بذاتها- بقدر الله- وتنموا بلا مساعدة من الإنسان ولا تنظيم. وإن الله هو الذى أنشأ النخل والزرع مختلف الألوان والطعوم والأشكال. وإن الله هو الذى خلق الزيتون والرمان، منوع الصنوف متشابها وغير متشابه، وإنه- سبحانه- هو الذى خلق هذه الأنعام وجعل منها {حمولة} عالية القوائم بعيدة عن الأرض حمالة للأثقال. وجعل منها {فرشاً} صغيرة الأجسام قريبة من الأرض يتخذ من أصوافها وأشعارها الفرش.. إنه هو- سبحانه- الذي بث الحياة فى هذه الأرض؛ ونّوعها هذا التنويع؛ وجعلها مناسبة للوظائف التى تتطلبها حياة الناس فىلأرض.. فكيف يذهب الناس- فى مواجهة هذه الآيات وهذه الحقائق- إلى تحكيم غير الله فى شأن الزروع والأنعام والأموال؟ إن المنهج القرآنى يكثر من عرض حقيقة الرزق الذى يختص الله بمنحه للناس، ليتخذ منها برهانا على ضرورة إفراد الله سبحانه بالحاكمية فى حياة الناس. فإن الخالق الرازق الكافل وحده؛ هو الحقيق بأن تكون له الربوبية والحاكمية والسلطان وحده.. بلا جدال: وهنا يحشد السياق مشاهد الزرع والإثمار، ومشاهد الأنعام وما فيها من نعم الله.. يحشد هذه المؤثرات فى صدد قضية الحاكمية، كما حشدها من قبل فى صدد قضية الألوهية.. فيدل على أن هذه وتلك قضية واحدة فى العقيدة الإسلامية. وعندما يذكر الزروع والثمار يقول: {كلوا من ثمره إذا أثمر وآتوا حقه يوم حصاده ولا تسرفوا، إنه لا يحب المسرفين}.. والأمر بإيتاء حقه يوم حصاده هو الذي جعل بعض الروايات تقول عن هذه الآية إنها مدينة. وقد قلنا فى التقديم للسورة: إن الآية مكية، لأن السياق فى الجزء المكي من السورة لا يتصور تتابعه بدون هذه الآية. فإن ما بعدها ينقطع عما قبلها لو كانت قد تأخرت حتى نزلت فى المدينة. وهذا الأمر بإيتاء حق الرزع يوم حصاده، لا يتحتم أن يكون المقصود به الزكاة. وهناك روايات فى الآية أن المقصود هو الصدقة غير المحددة.. أما الزكاة بأنصبتها المحددة فقد حددتها السنة بعد ذلك فى السنة الثانية من الهجرة.. وقوله تعالى: {ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين}.. ينصرف إلى العطاء، كما ينصرف إلى الأكل. فقد روي أنهم تباروا في العطاء حتى أسرفوا، فقال الله سبحانه: {ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين}.. وعندما يذكر الأنعام يقول: {كلوا مما رزقكم الله، ولا تتبعوا خطوات الشيطان، إنه لكم عدو مبين}.. ذلك ليذكرهم أن هذا رزق الله وخلقه، والشيطان لم يخلق شيئا. فما بالهم يتبعونه في رزق الله؟ ثم ليذكرهم أن الشيطان لهم عدو مبين. فما بالهم يتبعون خطواته وهو العدو المبين؟! ثم يأخذ السياق في مواجهة دقيقة يتتبع بها مكامن الأوهام الجاهلية. ليلقي عليها الضوء، ويستعرضها واحدا واحدا، وجزئية جزئية؛ فيكشف فيها عن السخف الذي لا يمكن تعليله ولا الدفاع عنه؛ والذي قد يخجل منه صاحبه نفسه، حين يكشف له في النور؛ وحين يرى أن لا سند له فيه من علم ولا هدى ولا كتاب منير: {ثمانية أزواج: من الضأن اثنين ومن المعز اثنين. قل: آلذكرين حرم أم الأنثيين؟ أم ما اشتملت عليه أرحام الأنثيين؟ نبئوني بعلم إن كنتم صادقين! ومن الإبل اثنين ومن البقر اثنين. قل: آلذكرين حرم أم الأنثيين؟ أم ما اشتملت عليه أرحام الأنثيين؟ أم كنتم شهداء إذ وصاكم الله بهذا؟ فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا ليضل الناس بغير علم؟ إن الله لا يهدي القوم الظالمين}.. فهذه الأنعام التي يدور حولها الجدل؛ والتي ذكر في الآية السابقة أن الله خلقها لهم، هي ثمانية أزواج- وكل من الذكر والأنثى يطلق عليه لفظ زوج عندما يكون مع رفيقه- زوج من الضأن وزوج من المعز. فأي منها حرمه الله على أي من الناس؟ أم إنه حرم أجنتها في البطون؟ {نبئوني بعلم إن كنتم صادقين}.. فهذه الشؤون لا يفتى فيها بالظن، ولا يقضى فيها بالحدس، ولا يشرع فيها بغير سلطان معلوم. وبقية الأزواج ذكر وأنثى من الإبل؛ وذكر وأنثى من البقر. فأيها كذلك حرم؟ أم أجنتها هي التي حرمها الله على الناس؟ ومن أين هذا التحريم: {أم كنتم شهداء إذ وصاكم الله بهذا؟}.. فحضرتم وشهدتم وصية الله لكم خاصة بهذا التحريم. فما ينبغي أن يكون هناك تحريم بغير أمر من الله مستيقن. لا يرجع فيه إلى الرجم والظنون. وبهذا يرد أمر التشريع كله إلى مصدر واحد.. وقد كانوا يزعمون أن الله هو الذي شرع هذا الذي يشرعونه. لذلك يعالجهم بالتحذير والتهديد: {فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا ليضل الناس بغير علم. إن الله لا يهدي القوم الظالمين}.. إنه لا أحد أظلم ممن يفتري على الله شريعة لم يأذن بها، ثم يقول: شريعة الله! وهو يقصد أن يضل الناس بغير علم، إنما هو يحيلهم إلى هدى أو ظن.. أولئك لن يهديهم الله؛ فقد قطعوا ما بينهم وبين أسباب الهدى. وأشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا.. والله لا يهدي القوم الظالمين.. والآن وقد كشف لهم عما في معقتداتهم وتصوراتهم وتصرفاتهم من وهن وسخف وهزال. وقد بين لهم أنها لا تقوم على علم ولا بينة ولا أساس. وقد ردهم إلى نشأة الحرث والأنعام التي يتصرفون فيها من عند أنفسهم، أو بوحي شياطينهم وشركائهم، بينما هؤلاء لم يخلقوها لهم، إنما الذي خلقها لهم هو الله، الذي يجب أن تكون له وحده الحاكمية فيما خلق وفيما رزق، وفيما أعطى من الأموال للعباد.. الآن يقرر لهم ما حرمه الله عليهم من هذا كله. ما حرمه الله حقاً عن بينة ووحي، لا عن ظن ووهم. والله هو صاحب الحاكمية الشرعية، الذي إذا حرم الشيء فهو حرام، وإذا أحله فهو حلال؛ بلا تدخل من البشر ولا مشاركة ولا تعقيب في سلطان الحاكمية والتشريع.. وبالمناسبة يذكر ما حرمه الله على اليهود خاصة، وأحله للمسلمين، فقد كان عقوبة خاصة لليهود على ظلمهم وبعدهم عن شرع الله! {قل: لا أجد فيما أوحي إليّ محرماً على طاعم يطعمه، إلا أن يكون ميتة، أو دماً مسفوحاً أو لحم خنزير- فإنه رجس- أو فسقاً أهل لغير الله به. فمن اضطر- غير باغ ولا عاد- فإن ربك غفور رحيم. وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر. ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما- إلا ما حملت ظهورهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم- ذلك جزيناهم ببغيهم وإنا لصادقون. فإن كذبوك فقل: ربكم ذو رحمة واسعة، ولا يرد بأسه عن القوم المجرمين}.. قال أبو جعفر بن جرير الطبري: «يقول- جل ثناؤه- لنبيه محمد- صلى الله عليه وسلم- قل، يا محمد، لهؤلاء الذين جعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيباً، ولشركائهم من الآلهة والأنداد مثله. والقائلين: هذه أنعام وحرث حجر لا يطعمها إلا من نشاء- بزعمهم- والمحرمين من أنعام أخر ظهورها، والتاركين ذكر اسم الله على أخر منها. والمحرمين بعض ما في بطون بعض أنعامهم على إناثهم وأزواجهم، ومُحليه لذكورهم. المحرمين ما رزقهم الله افتراء على الله؛ وإضافة ما يحرمون من ذلك إلى أن الله هو الذي حرمه عليهم: أجاءكم من الله رسول بتحريمه ذلك عليكم، فأنبئونا به، أم وصاكم الله بتحريمه مشاهدة منكم له، فسمعتم منه تحريمه ذلك عليكم فحرمتموه؟ فإنكم كذبة إن ادعيتم ذلك، ولا يمكنكم دعواه، لأنكم إذا ادعيتموه علم الناس كذبكم. فإني لا أجد فيما أوحي إلي من كتابه وآي تنزيله شيئاً محرماً على آكل يأكله، مما تذكرون أنه حرمه من هذه الأنعام التي تصفون تحريم ما حرم عليكم منها- بزعمكم- إلا أن يكون {ميتة}، قد ماتت بغير تذكية، أو {دماً مسفوحاً}، وهو المنصبّ، أو إلا أن يكون لحم خنزير {فإنه رجس}.. {أو فسقا} يقول: أو إلا أن يكون فسقاً، يعني بذلك: أو إلا أن يكون مذبوحاً ذبحه ذابح من المشركين من عبدة الأوثان لصنمه وآلهته فذكر اسم وثنه. فإن ذلك الذبح فسق، نهى الله عنه وحرمه، ونهى من آمن به عن أكل ما ذبح كذلك لأنه ميتة. «وهذا إعلام من الله- جل ثناؤه- للمشركين الذين جادلوا نبي الله وأصحابه في تحريم الميتة بما جادلوهم به، أن الذي جادلوهم فيه من ذلك هو الحرام الذي حرمه الله، وأن الذي زعموا أن الله حرمه حلال أحله الله؛ وأنهم كذبة في إضافتهم تحريمه إلى الله». وقال في تأويل قوله تعالى: {فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن ربك غفور رحيم}: ... «أن معناه: فمن اضطر إلى أكل ما حرم الله من أكل الميتة والدم المسفوح أو لحم الخنزير، أو ما أهل لغير الله به، غير باغ في أكله إياه تلذذاً، لا لضرورة حالة من الجوع؛ ولا عاد في أكله بتجاوزه ما حده الله وأباحه له من أكله، وذلك أن يأكل منه ما يدفع عنه الخوف على نفسه بترك أكله من الهلاك.. لم يتجاوز ذلك إلى أكثر منه.. فلا حرج عليه في أكله ما أكل من ذلك. {فإن الله غفور} فيما فعل من ذلك، فساتر عليه، بتركه عقوبته عليه. ولو شاء عاقبه عليه. {رحيم} بإباحته إياه أكل ذلك عند حاجته إليه. ولو شاء حرمه عليه ومنعه منه». أما حد الاضطرار الذي يباح فيه الأكل من هذه المحرمات؛ والمقدار المباح منها فحولهما خلافات فقهية.. فرأي أنه يباح ما يحفظ الحياة فقط عند خوف الهلاك لو امتنع.. ورأي أنه يباح ما يحقق الكفاية والشبع.. ورأي أنه يباح فوق ذلك ما يدخر لأكلات أخرى إذا خيف انقطاع الطعام.. ولا ندخل في تفصيلا ت الفروع.. فهذا القدر منها يكفي في هذا الموضع. فأما اليهود فقد حرم الله عليهم كل ذي ظفر من الحيوان- أي كل حيوان قدمه غير مشقوقة؛ وذلك كالإبل والنعام والأوز والبط. وحرم كذلك شحم البقر والغنم- إلا شحم الظهر، أو الدهن الملتف بالأمعاء، أو ما اختلط منه بالعظم.. وكان ذلك عقوبة لهم على بغيهم بتجاوز أوامر الله وشرائعه: {وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر. ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما- إلا ما حملت ظهورهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم- ذلك جزيناهم ببغيهم، وإنا لصادقون}. والنص يبين سبب هذا التحريم، وهو سبب خاص باليهود، ويؤكد أن هذا هو الصدق، لا ما يقولونه هم من أن إسرائيل، وهو يعقوب جدهم، هو الذي حرم هذا على نفسه فهم يتبعونه فيما حرم على نفسه.. لقد كان هذا مباحا حلالاً ليعقوب. ولكنه حرم عليهم بعد ما بغوا، فجازاهم الله بهذا الحرمان من الطيبات. {فإن كذبوك فقل: ربكم ذو رحمة واسعة، ولا يرد بأسه عن القوم المجرمين}. فقل ربكم ذو رحمة واسعة بنا، وبمن كان مؤمنا من عباده، وبغيرهم من خلقه. فرحمته- سبحانه- تسع المحسن والمسيء؛ وهو لا يعجل على من استحق العقاب؛ حلما منه ورحمة. فإن بعضهم قد يثوب إلى الله.. ولكن بأسه شديد لا يرده عن المجرمين إلا حلمه، وما قدره من إمهالهم إلى أجل مرسوم. وهذا القول فيه من الإطماع في الرحمة بقدر ما فيه من الإرهاب بالبأس. والله الذي خلق قلوب البشر؛ يخاطبها بهذا وذاك؛ لعلها تهتز وتتلقى وتستجيب. وعندما يصل السياق إلى هذا الحد من تضييق الخناق عليهم، وسد الذرائع في وجوههم، يواجه مهربهم الأخير الذين يحيلون عليهم شركهم وضلال تصوراتهم وتصرفاتهم.. إنهم يقولون: إنهم مجبرون لا مخيرون فيما اعتسفوا من شرك وضلال. فلو كان الله لا يريد منهم الشرك والضلال لمنعهم منه بقدرته التي لا يعجزها شيء: {سيقول الذين أشركوا: لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا، ولا حرمنا من شيء. كذلك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا. قل: هل عندكم من علم فتخرجوه لنا؟ إن تتبعون إلا الظن، وإن أنتم إلا تخرصون. قل: فلله الحجة البالغة، فلو شاء لهداكم أجمعين}: وقضية الجبر والاختيار كثر فيها الجدل في تاريخ الفكر الإسلامي بين أهل السنة والمعتزلة والمجبرة والمرجئة... وتدخلت الفلسفة الإغريقية والمنطق الإغريقي واللاهوت المسيحي في هذا الجدل، فتعقد تعقيداً لا تعرفه العقلية الإسلامية الواضحة الواقعية.. ولو أخذ الأمر بمنهج القرآن المباشر الميسر الجاد، ما اشتد هذا الجدل، وما سار في ذلك الطريق الذي سار فيه. ونحن نواجه قول المشركين هذا والرد القرآني عليه، فنجد قضية واضحة بسيطة محددة: {سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء}.. فهم يحيلون شركهم هم وآباؤهم، وتحريمهم ما حرموه مما لم يحرمه الله، وادعاءهم أن هذا من شرع الله بغير علم ولا دليل.. يحيلون هذا كله على مشيئة الله بهم. فلو شاء الله ما أشركوا ولا حرموا.. فكيف واجه القرآن الكريم هذه المقولة؟ لقد واجهها بأنهم كذبوا كما كذب الذين من قبلهم، وقد ذاق المكذبون من قبلهم بأس الله. وبأس الله ينتظر المكذبين الجدد: {كذلك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا}.. وهذه هي الهزة التي قد تحرك المشاعر، وتوقظ من الغفلة، وتوجه إلى العبرة.. واللمسة الثانية كانت بتصحيح منهج الفكر والنظر.. إن الله أمرهم بأوامر ونهاهم عن محظورات.. وهذا ما يملكون أن يعلموه علماً مستيقناً.. فأما مشيئة الله فهي غيب لا وسيلة لهم إليه، فكيف يعلمونه؟ وإذا لم يعلموه يقيناً فكيف يحيلون عليه: {قل: هل عندكم من علم فتخرجوه لنا؟ إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون}.. إن لله أوامر ونواهي معلومة علماً قطعياً، فلماذا يتركون هذه المعلومات القطعية، ليمضوا وراء الحدس والخرص في واد لا يعلمونه؟ هذا هو فصل القول في هذه القضية.. إن الله لا يكلف الناس أن يعلموا غيب مشيئته وقدره حتى يكيفوا أنفسهم على حسبه. وإنما يكلفهم أن يعلموا أوامره ونواهيه، ليكيفوا أنفسهم على حسبها.. وهم حين يحاولون هذا يقرر الله سبحانه أنه يهديهم إليه، ويشرح صدورهم للإسلام.. وهذا حسبهم في القضية التي تبدو عندئذ- في واقعها العملي- يسيرة واضحة، بريئة من غموض ذلك الجدل وتحكماته! إن الله قادر لو شاء على أن يخلق بني آدم ابتداء بطبيعة لا تعرف إلا الهدى، أو يقهرهم على الهدى. أو يقذف بالهدى في قلوبهم فيهتدوا بلا قهر... ولكنه- سبحانه- شاء غير هذا! شاء أن يبتلي بني آدم بالقدرة على الاتجاه إلى الهدى أو الضلال، ليعين من يتجه منهم إلى الهدى على الهدى، وليمد من يتجه منهم إلى الضلال في غيه وفي عمايته.. وجرت سنته بما شاء.. {قل: فلله الحجة البالغة، فلو شاء لهداكم أجمعين}. قضية واضحة، مصوغة في أيسر صورة يدركها الإدراك البشري. فأما المعاظلة فيها والمجادلة فهي غريبة على الحس الإسلامي وعلى المنهج الإسلامي.. ولم ينته الجدل فيها في أية فلسفة أو أي لاهوت إلى نتيجة مريحة. لأنه جدل يتناول القضية بأسلوب لا يناسب طبيعتها.. إن طبيعة أي حقيقة هي التي تحدد منهج تناولها، وأسلوب التعبير عنها كذلك. الحقيقة المادية يمكن تناولها بتجارب المعمل. والحقيقة الرياضية يمكن تناولها بفروض الذهن. والحقيقة التي وراء هذا المدى، لا بد أن تتناول بمنهج آخر.. هو كما قلنا من قبل: منهج التذوق الفعلي لهذه الحقيقة في مجالها الفعلي. ومحاولة التعبير عنها بغير أسلوب القضايا الذهنية التي عولجت بها في كل ما جرى حولها من الجدل قديماً وحديثاً. وبعد فلقد جاء هذا الدين ليحقق واقعاً عملياً؛ تحدده أوامر ونواه واضحة. فالإحالة على المشيئة الغيبية دخول في متاهة، يرتادها العقل بغير دليل، ومضيعة للجهد الذي ينبغي أن ينفق في العمل الإيجابي الواقعي المشهود. وأخيراً يوجه الله- سبحانه- رسوله- صلى الله عليه وسلم- إلى مواجهة المشركين في موقف الإشهاد على قضية التشريع، كما واجههم من قبل في موقف الإشهاد على قضية الألوهية في أوائل السورة: في أوائل السورة قال له: {قل: أي شيء أكبر شهادة؟ قل الله. شهيد بيني وبينكم، وأوحي إليَّ هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ. أئنكم لتشهدون أن مع الله آلهة أخرى؟ قل: لا أشهد. قل: إنما هو إله واحد، وإنني بريء مما تشركون} وهنا قال له: {قل: هلم شهداءكم الذين يشهدون أن الله حرم هذا. فإن شهدوا فلا تشهد معهم. ولا تتبع أهواء الذين كذبوا بآياتنا والذين لا يؤمنون بالآخرة، وهم بربهم يعدلون}.. إنها مواجهة هائلة، ومواجهة كذلك فاصلة. ودلالتها على طبيعة هذا الدين غير خافية.. إن هذا الدين يسوي بين الشرك العلني الواضح باتخاذ آلهة أخرى مع الله؛ وبين الشرك الآخر الذي يتمثل في مزاولة حق الحاكمية والتشريع للناس. بما لم يأذن به الله- دون اعتبار لما يدعونه هم من أن ما يشرعونه هو شريعة الله!- كما أنه يصم الذين يرتكبون هذه الفعلة بأنهم يكذبون بآيات الله، ولا يؤمنون بالآخرة، وهم بربهم يعدلون.. أي يجعلون له أنداداً تعدله.. وهو ذات التعبير الذي جاء في أول آية في السورة وصفا للذين كفروا: {الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض، وجعل الظلمات والنور، ثم الذين كفروا بربهم يعدلون} هذا حكم الله على الذين يغتصبون حق الحاكمية ويزاولونه بالتشريع للناس- دون اعتبار لدعواهم أن ما يشرعونه هو من شريعة الله!- وليس بعد حكم الله رأي لأحد في هذه القضية الخطيرة. فإذا أردنا أن نفهم لماذا يقضي الله- سبحانه- بهذا الحكم؟ ولماذا يعدهم مكذبين بآياته؛ غير مؤمنين بالآخرة، مشركين يعدلون بربهم غيره.. فإن لنا أن نحاول الفهم. فتدبر حكمة الله في شرعه وحكمه أمر مطلوب من المسلم.. إن الله قد حكم على المشرعين للناس من عند أنفسهم- مهما قالوا إنه من شرع الله- بأنهم يكذبون بآياته. لأن آياته- إن كان المراد بها آياته الكونية- كلها تشهد بأنه الخالق الرازق الواحد.. والخالق الرازق هو المالك. فيجب أن يكون وحده المتصرف الحاكم.. فمن لم يفرده- سبحانه- بالحاكمية فقد كذب بآياته هذه.. وإن كان المقصود آياته القرآنية، فالنصوص فيها حاسمة وصريحة وواضحة في وجوب إفراده- سبحانه- بالحاكمية في حياة البشر الواقعية، واتخاذ شريعته وحدها قانونا، وتعبيد الناس له وحده بالشرع النافذ والحكم القاهر.. كذلك حكم عليهم- سبحانه- بأنهم لا يؤمنون بالآخرة.. فالذي يؤمن بالآخرة، ويوقن أنه ملاق ربه يوم القيامة، لا يمكن أن يعتدي على ألوهية الله، ويدعي لنفسه حقه الذي يتفرد به. وهو حق الحاكمية المطلقة في حياة البشر. ممثلة هذه الحاكمية في قضائه وقدره، وفي شريعته وحكمه.. ثم حكم عليهم في النهاية بأنهم بربهم يعدلون.. أي أنه حكم عليهم بالشرك الذي وصف به الكافرين.. ذلك أنهم لو كانوا موحدين ما شاركوا الله- سبحانه- في حق الحاكمية الذي تفرد به. أو ما قبلوا من عبد أن يدعيه ويزاوله وهم راضون! هذه- فيما يبدو لنا- هي علة حكم الله على من يزاولون حق الحاكمية ويشرعون للناس ما لم يأذن به، بالتكذيب بآياته، وعدم الإيمان بالآخرة والشرك الذي يتحقق به الكفر.. أما الحكم ذاته فلا يملك «مسلم» أن يجادل فيه. فقد صدرت فيه كلمة الفصل التي لا معقب عليها. فلينظر كل «مسلم» كيف يتأدب أمام كلمة العزيز الحكيم.. وبعد موقف الإشهاد ورفض ما يقررونه من المحرمات، يلقي إليهم بالمقررات الإلهية التي تتضمن ما حرمه الله حقاً.. وسنجد إلى جانب ما حرمه بعض التكاليف الإيجابية التي لها مقابل محرم. وهذه المحرمات تبدأ بالمحرم الأول.. وهو الشرك بالله.. لأن هذه هي القاعدة الأولى التي يجب أن تتقرر، لتقوم عليها المحرمات والنواهي، لمن استسلم لها وأسلم: {قل: تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم: ألا تشركوا به شيئاً. وبالوالدين إحسانا، ولا تقتلوا أولادكم من إملاق، نحن نرزقكم وإياهم. ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن. ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق.. ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون.. ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن، حتى يبلغ أشده، وأوفوا الكيل والميزان بالقسط- لا نكلف نفسا إلا وسعها- وإذا قلتم فاعدلوا- ولو كان ذا قربى- وبعهد الله أوفوا.. ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون. وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه، ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله.. ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون..}. وننظر في هذه الوصايا- التي ترد في السياق بمناسبة الحديث عن تشريعات الأنعام والثمار وأوهام الجاهلية وتصوراتها وتصرفاتها- فإذا هي قوام هذا الدين كله.. إنها قوام حياة الضمير بالتوحيد، وقوام حياة الأسرة بأجيالها المتتابعة، وقوام حياة المجتمع بالتكافل والطهارة فيما يجري فيه من معاملات، وقوام حياة الإنسانية وما يحوط الحقوق فيها من ضمانات، مرتبطة بعهد الله، كما أنها بدئت بتوحيد الله.. وننظر في ختام هذه الوصايا، فإذا الله- سبحانه وتعالى- يقرر أن هذا صراطه المستقيم؛ وكل ما عداه سبل تتفرق بالناس عن سبيله الواصل.. الوحيد.. إنه أمر هائل هذا الذي تتضمنه الآيات الثلاث.. أمر هائل يجيء في أعقاب قضية تبدو كأنها لمحة جانبية من الجاهلية؛ ولكنها في الحقيقة هي قضية هذا الدين الأساسية؛ بدلالة ربطها بهذه الوصايا الهائلة الكلية.. {قل: تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم}. قل: تعالوا أقص عليكم ما حرمه عليكم ربكم- لا ما تدعون أنتم أنه حرمه بزعمكم-! لقد حرمه عليكم {ربكم} الذي له وحده حق الربوبية- وهي القوامة والتربية والتوجيه والحاكمية- وإذن فهو اختصاصه، وموضع سلطانه، فالذي يحرم هو «الرب» والله هو وحده الذي يجب أن يكون ربا.. {ألا تشركوا به شيئاً}.. القاعدة التي يقوم عليها بناء العقيدة؛ وترجع إليها التكاليف والفرائض، وتستمد منها الحقوق والواجبات.. القاعدة التي يجب أن تقوم أولاً قبل الدخول في الأوامر والنواهي؛ وقبل الدخول في التكاليف والفرائض، وقبل الدخول في النظام والأوضاع؛ وقبل الدخول في الشرائع والأحكام.. يجب ابتداء أن يعترف الناس بربوبية الله وحده لهم في حياتهم كما يعترفون بألوهيته وحده في عقيدتهم؛ لا يشركون معه أحداً في ألوهيته، ولا يشركون معه أحداً في ربوبيته كذلك. يعترفون له وحده بأنه المتصرف في شؤون هذا الكون في عالم الأسباب والأقدار؛ ويعترفون له وحده بأنه المتصرف في حسابهم وجزائهم يوم الدين؛ ويعترفون له وحده بأنه هو المتصرف في شؤون العباد في عالم الحكم والشريعة كلها سواء.. إنها تنقية الضمير من أوشاب الشرك، وتنقية العقل من أوشاب الخرافة، وتنقية المجتمع من تقاليد الجاهلية، وتنقية الحياة من عبودية العباد للعباد.. إن الشرك- في كل صوره- هو المحرم الأول لانه يجر إلى كل محرم. وهو المنكر الأول الذي يجب حشد الإنكار كله له؛ حتى يعترف الناس أن لا إله لهم إلا الله، ولا رب لهم إلا الله، ولا حاكم لهم إلا الله، ولا مشرع لهم إلا الله. كما أنهم لا يتوجهون بالشعائر لغير الله.. وإن التوحيد- على إطلاقه- لهو القاعدة الأولى التي لا يغني غناءها شيء آخر، من عبادة أو خلق أو عمل.. من أجل ذلك تبدأ الوصايا كلها بهذه القاعدة: {ألا تشركوا به شيئاً}.. وينبغي أن نلتفت إلى ما قبل هذه الوصايا، لنعلم ماذا يراد بالشرك الذي ينهى عنه في مقدمة الوصايا- لقد كان السياق كله بصدد قضية معينة- قضية التشريع ومزاولة حق الحاكمية في إصداره- وقبل آية واحدة كان موقف الإشهاد الذي يحسن أن نعيد نصه: {قل: هلم شهداءكم الذين يشهدون أن الله حرم هذا. فإن شهدوا فلا تشهد معهم. ولا تتبع أهواء الذين كذبوا بآياتنا، والذين لا يؤمنون بالآخرة، وهم بربهم يعدلون}.. يجب أن نذكر هذه الآية، وما قلناه عنها في الصفحات السابقة لندرك ماذا يعني السياق القرآني هنا بالشرك الذي ينهى عنه ابتداءً.. إنه الشرك في الاعتقاد، كما أنه الشرك في الحاكمية. فالسياق حاضر، والمناسبة فيه حاضرة.. ونحن نحتاج إلى هذا التذكير المستمر، لأن جهود الشياطين في زحزحة هذا الدين عن مفهوماته الأساسية، قد آتت ثمارها- مع الأسف- فجعلت مسألة الحاكمية تتزحزح عن مكان العقيدة، وتنفصل في الحس عن أصلها الاعتقادي! ومن ثم نجد حتى الغيورين على الإسلام، يتحدثون لتصحيح شعيرة تعبدية؛ أو لاستنكار انحلال أخلاقي؛ أو لمخالفة من المخالفات القانونية. ولكنهم لا يتحدثون عن أصل الحاكمية، وموقعها من العقيدة الإسلامية! يستنكرون المنكرات الجانبية الفرعية، ولا يستنكرون المنكر الأكبر؛ وهو قيام الحياة في غير التوحيد؛ أي على غير إفراد الله- سبحانه- بالحاكمية.. إن الله قبل أن يوصي الناس أي وصية، أوصاهم ألا يشركوا به شيئاً. في موضع من السياق القرآني يحدد المعنيّ بالشرك الذي تبدأ بالنهي عنه جميع الوصايا! إنها القاعدة التي يرتبط على أساسها الفرد بالله على بصيرة، وترتبط بها الجماعة بالمعيار الثابت الذي ترجع إليه في كافة الروابط، وبالقيم الأساسية التي تحكم الحياة البشرية.. فلا تظل نهباً لريح الشهوات والنزوات، واصطلاحات البشر التي تتراوح مع الشهوات والنزوات.. {وبالوالدين إحسانا، ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم}.. إنها رابطة الأسرة بأجيالها المتلاحقة- تقوم بعد الرابطة في الله ووحدة الاتجاه- ولقد علم الله- سبحانه- أنه أرحم بالناس من الآباء والأبناء. فأوصى الأبناء بالآباء، وأوصى الآباء بالأبناء؛ وربط الوصية بمعرفة ألوهيته الواحدة، والارتباط بربوبيته المتفردة. وقال لهم: إنه هو الذي يكفل لهم الرزق، فلا يضيقوا بالتبعات تجاه الوالدين في كبرتهما؛ ولا تجاه الأولاد في ضعفهم، ولا يخافوا الفقر والحاجة فالله يرزقهم جميعاً.. {ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن}.. ولما وصاهم الله بالأسرة، وصاهم بالقاعدة التي تقوم عليها- كما يقوم عليها المجتمع كله- وهي قاعدة النظافة والطهارة والعفة. فنهاهم عن الفواحش ظاهرها وخافيها.. فهو نهي مرتبط تماماً بالوصية السابقة عليها.. وبالوصية الأولى التي تقوم عليها كافة الوصايا. إنه لا يمكن قيام أسرة، ولا استقامة مجتمع، في وحل الفواحش ما ظهر منها وما بطن.. إنه لا بد من طهارة ونظافة وعفة لتقوم الأسرة وليقوم المجتمع. والذين يحبون أن تشيع الفاحشة هم الذين يحبون أن تتزعزع قوائم الأسرة وأن ينهار المجتمع. والفواحش: كل ما أفحش- أي تجاوز الحد- وإن كانت أحياناً تخص بنوع منها هو فاحشة الزنا. ويغلب على الظن أن يكون هذا هو المعنى المراد في هذا الموضع. لأن المجال مجال تعديد محرمات بذاتها، فتكون هذه واحدة منها بعينها. ولا فقتل النفس فاحشة، وأكل مال اليتيم فاحشة، والشرك بالله فاحشة الفواحش. فتخصيص {الفواحش} هنا بفواحش الزنا أولى بطبيعة السياق. وصيغة الجمع، لأن هذه الجريمة ذات مقدمات وملابسات كلها فاحشة مثلها. فالتبرج، والتهتك، والاختلاط المثير، والكلمات والإشارات والحركات والضحكات الفاجرة، والإغراء والتزيين والاستثارة... كلها فواحش تحيط بالفاحشة الأخيرة. وكلها فواحش منها الظاهر ومنها الباطن. منها المستسر في الضمير ومنها البادي في الجوارح. منها المخبوء المستور ومنها المعلن المكشوف! وكلها مما يحطم قوام الأسرة، وينخر في جسم الجماعة، فوق ما يلطخ ضمائر الأفراد، ويحقر من اهتماماتهم، ومن ثم جاءت بعد الحديث عن الوالدين والأولاد. ولأن هذه الفواحش ذات إغراء وجاذبية، كان التعبير: {ولا تقربوا}.. للنهي عن مجرد الاقتراب، سداً للذرائع، واتقاء للجاذبية التي تضعف معها الإرادة.. لذلك حرمت النظرة الثانية- بعد الأولى غير المتعمدة- ولذلك كان الاختلاط ضرورة تتاح بقدر الضرورة. ولذلك كان التبرج- حتى بالتعطر في الطريق- حراماً، وكانت الحركات المثيرة، والضحكات المثيرة، والإشارات المثيرة، ممنوعة في الحياة الإسلامية النظيفة.. فهذا الدين لا يريد أن يعرض الناس للفتنة ثم يكلف أعصابهم عنتا في المقاومة! فهو دين وقاية قبل أن يقيم الحدود، ويوقع العقوبات. وهو دين حماية للضمائر والمشاعر والحواس والجوارح. وربك أعلم بمن خلق، وهو اللطيف الخبير.. وكذلك نعلم ما الذي يريده بهذا الدين، وبحياة المجتمع كله وبحياة الأسرة، من يزينون للناس الشهوات، ومن يطلقون الغرائز من عقالها بالكلمة والصورة والقصة والفيلم وبالمعسكر المختلط وبسائر أدوات التوجيه والإعلام! {ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق}.. ويكثر في السياق القرآني مجيء النهي عن هذه المنكرات الثلاثة متتابعة: الشرك، والزنا، وقتل النفس.. ذلك أنها كلها جرائم قتل في الحقيقة! الجريمة الأولى جريمة قتل للفطرة؛ والثانية جريمة قتل للجماعة، والثالثة جريمة قتل للنفس المفردة.. إن الفطرة التي لا تعيش على التوحيد فطرة ميتة. والجماعة التي تشيع فيها الفاحشة جماعة ميتة، منتهية حتماً إلى الدمار. والحضارة الإغريقية والحضارة الرومانية والحضارة الفارسية. شواهد من التاريخ. ومقدمات الدمار والانهيار في الحضارة الغربية تنبئ بالمصير المرتقب لأمم ينخر فيها كل هذا الفساد. والمجتمع الذي تشيع فيه المقاتل والثارات، مجتمع مهدد بالدمار.. ومن ثم يجعل الإسلام عقوبة هذه الجرائم في أقسى العقوبات، لأنه يريد حماية مجتمعه من عوامل الدمار. ولقد سبق النهي عن قتل الأولاد من إملاق. فالآن ينهى عن قتل {النفس} عامة، فيوحي بأن كل قتل فردي إنما يقع على جنس {النفس} في عمومه. تؤيد هذا الفهم آية: {... أنه من قتل نفساً، بغير نفس أو فساد في الأرض، فكأنما قتل الناس جميعاً، ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا} فالاعتداء إنما يقع على حق الحياة ذاتها، وعلى النفس البشرية في عمومها. وعلى هذه القاعدة كفل الله حرمة النفس ابتداء. وهناك طمأنينة الجماعة المسلمة في دار الإسلام وأمنها، وانطلاق كل فرد فيها ليعمل وينتج آمناً على حياته، لا يُؤذى فيها إلا بالحق. والحق الذي تؤخذ به النفس بينه الله في شريعته، ولم يتركه للتقدير والتأويل. ولكنه لم يبينه ليصبح شريعة إلا بعد أن قامت الدولة المسلمة، وأصبح لها من السلطان ما يكفل لها تنفيذ الشريعة! وهذه اللفتة لها قيمتها في تعريفنا بطبيعة منهج هذا الدين في النشأة والحركة. فحتى هذه القواعد الأساسية في حياة المجتمع، لم يفصلها القرآن إلا في مناسبتها العملية. وقبل أن يمضي السياق في بيان المحرمات والتكاليف، يفصل بين هذا القسم والذي يليه بإبراز وصية الله وأمره وتوجيهه: {ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون}. وهذا التعقيب يجيء وفق المنهج القرآني في ربط كل أمر وكل نهي بالله. تقريرا لوحدة السلطة التي تأمر وتنهى في الناس، وربطاً للأوامر والنواهي بهذه السلطة التي تجعل للأمر والنهي وزنه في ضمائر الناس! كذلك تجيء في الإشارة إلى التعقل. فالعقل يقتضي أن تكون هذه السلطة وحدها هي التي تعبد الناس لشرعها. وقد سبق أنها سلطة الخالق الرازق المتصرف في حياة الناس! وهذا وذلك فوق ما في الطائفة الأولى من التجانس. وما بين الطائفة الثانية كذلك من التجانس. فجعل هذه في آية، وتلك في آية، وبينهما هذا الإيقاع. {ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده}.. واليتيم ضعيف في الجماعة، بفقده الوالد الحامي والمربي، ومن ثم يقع ضعفه على الجماعة المسلمة- على أساس التكافل الاجتماعي الذي يجعله الإسلام قاعدة نظامه الاجتماعي- وكان اليتيم ضائعاً في المجتمع العربي في الجاهلية. وكثرة التوجيهات الواردة في القرآن وتنوعها وعنفها أحيانا تشي بما كان فاشياً في ذلك المجتمع من ضيعة اليتيم فيه؛ حتى انتدب الله يتيما كريماً فيه؛ فعهد إليه بأشرف مهمة في الوجود. حين عهد إليه بالرسالة إلى الناس كافة. وجعل من آداب هذا الدين الذي بعثه به رعاية اليتيم وكفالته على النحو الذي نرى منه هذا التوجيه: {ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده}. فعلى من يتولى اليتيم ألا يقرب ماله إلا بالطريقة التي هي أحسن لليتيم. فيصونه وينميه، حتى يسلمه له كاملاً نامياً عند بلوغه أشده. أي اشتداد قوته الجسمية والعقلية. ليحمي ماله، ويحسن القيام عليه. وبذلك تكون الجماعة قد أضافت إليها عضواً نافعاً؛ وسلمته حقه كاملا. وهناك خلاف فقهي حول سن الرشد أو بلوغ الأشد.. عند عبد الرحمن بن زيد وعند مالك، بلوغ الحلم، وعند أبي حنيفة خمسة وعشرون عاما. وعند السدي ثلاثون، وعند أهل المدينة بلوغ الحلم وظهور الرشد معاً بدون تحديد. {وأوفوا الكيل والميزان بالقسط- لا نكلف نفسا إلا وسعها-}. وهذه في المبادلات التجارية بين الناس في حدود طاقة التحري والإنصاف، والسياق يربطها بالعقيدة؛ لأن المعاملات في هذا الدين وثيقة الارتباط بالعقيدة. والذي يوصي بها ويأمر هو الله. ومن هنا ترتبط بقضية الألوهية والعبودية، وتذكر في هذا المعرض الذي يبرز فيه شأن العقيدة، وعلاقتها بكل جوانب الحياة.. ولقد كانت الجاهليات- كما هي اليوم- تفصل بين العقيدة والعبادات، وبين الشرائع والمعاملات. . من ذلك ما حكاه القرآن الكريم عن قوم شعيب: {قالوا: يا شعيب، أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء} ومن ثم يربط السياق القرآني بين قواعد التعامل في المال والتجارة والبيع والشراء، وبين هذا المعرض الخاص بالعقيدة، للدلالة على طبيعة هذا الدين، وتسويته بين العقيدة والشريعة، وبين العبادة والمعاملة، في أنها كلها من مقومات هذا الدين، المرتبطة كلها في كيانه الأصيل. {وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى}.. وهنا يرتفع الإسلام بالضمير البشري- وقد ربطه الله ابتداء- إلى مستوى سامق رفيع، على هدى من العقيدة في الله ومراقبته.. فهنا مزلة من مزلات الضعف البشري. الضعف الذي يجعل شعور الفرد بالقرابة هو شعور التناصر والتكامل والامتداد؛ بما أنه ضعيف ناقص محدود الأجل؛ وفي قوة القرابة سند لضعفه؛ وفي سعة رقعتها كمال لوجوده، وفي امتدادها جيلاً بعد جيل ضمان لامتداده! ومن ثم يجعله ضعيفاً تجاه قرابته حين يقف موقف الشهادة لهم أوعليهم، أو القضاء بينهم وبين الناس.. وهنا في هذه المزلة يأخذ الإسلام بيد الضمير البشري ليقول كلمة الحق والعدل، على هدى من الاعتصام بالله وحده، ومراقبة الله وحده، اكتفاء به من مناصرة ذوي القربى، وتقوى له من الوفاء بحق القرابة دون حقه؛ وهو- سبحانه- أقرب إلى المرء من حبل الوريد.. لذلك يعقب على هذا الأمر- وعلى الوصايا التي قبله- مذكراً بعهد الله: {وبعهد الله أوفوا}.. ومن عهد الله قولة الحق والعدل ولو كان ذا قربى. ومن عهد الله توفية الكيل والميزان بالقسط. ومن عهد الله ألا يقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن. ومن عهد الله حرمة النفس إلا بالحق.. وقبل ذلك كله.. من عهد الله ألا يشركوا به شيئاً. فهذا هو العهد الأكبر، المأخوذ على فطرة البشر، بحكم خلقتها متصلة بمبدعها، شاعرة بوجوده في النواميس التي تحكمها من داخلها كما تحكم الكون من حولها. ثم يجيء التعقيب القرآني في موضعه بعد التكاليف: {ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون}.. والذكر ضد الغفلة. والقلب الذاكر غير الغافل، وهو يذكر عهد الله كله، ويذكر وصاياه المرتبطة بهذا العهد ولا ينساها. ... هذه القواعد الأساسية الواضحة التي تكاد تلخص العقيدة الإسلامية وشريعتها الاجتماعية مبدوءة بتوحيد الله ومختومة بعهد الله، وما سبقها من حديث الحاكمية والتشريع... هذه هي صراط الله المستقيم.. صراطه الذي ليس وراءه إلا السبل المتفرقة عن السبيل: {وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه، ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله.. ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون}.. وهكذا يختم القطاع الطويل من السورة الذي بدأ بقوله تعالى: {أفغير الله أبتغي حكماً، وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلاً} وانتهى هذه النهاية، بهذا الإيقاع العريض العميق.. وضم بين المطلع والختام قضية الحاكمية والتشريع، كما تبدو في مسألة الزروع والأنعام، والذبائح والنذور، إلى كل القضايا العقيدية الأساسية، ليدل على أنها من هذه القضايا. التي أفرد لها السياق القرآني كل هذه المساحة؛ وربطها بكل محتويات السورة السابقة التي تتحدث عن العقيدة في محيطها الشامل؛ وتتناول قضية الألوهية والعبودية ذلك التناول الفريد. إنه صراط واحد- صراط الله- وسبيل واحدة تؤدي إلى الله.. أن يفرد الناس الله- سبحانه- بالربوبية، ويدينوا له وحده بالعبودية؛ وأن يعلموا أن الحاكمية لله وحده؛ وأن يدينوا لهذه الحاكمية في حياتهم الواقعية.. هذا هو صراط الله؛ وهذا هو سبيله.. وليس وراءه إلا السبل التي تتفرق بمن يسلكونها عن سبيله. {ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون}.. فالتقوى هي مناط الاعتقاد والعمل. والتقوى هي التي تفيء بالقلوب إلى السبيل..
|